Dialogue de sourd 4° Partie

Publié le par BOUCHADEKH Abdessalem

 

بسم الله الرحمان الرّحيم

حوار الطرشان وصمت الأموات بين السلطة والمعارضة

 كيف تحقيق الأمن الغذائي و السلم الاجتماعي

العودة حق واسترداده واجب

لا حياة كريمة بدون المحافظة على الهوية العربية الاسلامية  

الحكمة تقتضي ترك عقلية تبسيط الأمور و استعجال النتائج و الاستخفاف بالآخر

لا تنمية بدون ضمان حقوقّ المواطنة 

 

(الجزء الرابع)

"واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا واذكروا نعمة الله عليكم اذ كنتم أعداءا فألّف بين قلوبكم" (آل عمران 103)

"قل هذه سبيلي ادعو الى الله على بصيرة انا ومن اتبعني وسبحان الله" (سورة يوسف 108)

" ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة"(النحل - 125)

" يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها و بث منهما رجالا كثيرا و نساء، و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام إن الله كان عليكم رقيبا، " (النساء - 1)

 

 

باريس في 25 أوت  2008

بقلم : عبد السّلام بو شدّاخ، احد مؤسسي الحركة الاسلامية في تونس

 

لماذا لا نذكّر بعضنا بعضا بهذه الشواهد ؟ : إنها الحقائق التي ينبغي أن تكون حاضرة باستمرار في حياتنا وحياة التونسيين جميعا ، وينبغي أن يتحدث بها الناس جميعا السياسيين وغير السياسيين ، كما وجهنا نبينا صلى الله عليه وسلم حيث قال: " أكثروا ذكر هادم اللذات : الموت " . وغياب ذكر هذه المعاني هي من أكبر المصائب التي تصيب الأفراد والجماعات والمجتمعات.  

 لمَ لا يتخذ التونسيون "تبت إلى الله تعالى" شعارا للمرحلة ؟

يقول منافح المسجد الأقصى الشيخ رائد صلاح كما نشرت الحوار نت :( تبت إلى الله تعالى ) جملة مباركة ، ثقيلة في ميزان الله تعالى ، قد قالها اقوام بعد ان كادوا ان يهلكوا ، فنقلتهم من حال إلى حال ، نقلتهم من الظلمات إلى النور ، ومن الضلال إلى الهدى ، ومن الشقاء إلى السعادة .

فهذا الفضيل بن عياض رحمه الله كان في أول أمره لصا يقتحم البيوت ، فقال صادقا ( تبت إلى الله تعالى ) ، فنقلته هذه الجملة من سارق الليل الفضيل إلى قائم الليل الفضيل .

وهذه رابعة العدوية رحمها الله تعالى كانت في اول أمرها مطربة القصور ، فقالت صادقة ( تبت إلى الله تعالى ) ، فنقلتها هذه الجملة من مطربة القصور رابعة إلى عابدة الرب الغفور رابعة .

وهذا ابراهيم بن الأدهم كان في أول امره صائد غزلان وطويل الغفلة والعصيان ، فقال صادقا ( تبت إلى الله تعالى ) ، فنقلته هذه الجملة من صائد غزلان وعصيان إلى عابد للرحمن ومحارب للشيطان. وهناك الكثير الكثير الذين نقلتهم هذه الجملة - لمّا صدقوا بقولها - من حال إلى حال. (انتهى كلام الشيخ صلاح)

فيا أيها التونسيون ، ويا أيها التونسيات ، فرصة التوبة الى الله تعالى والنطق بصدق ( تبت الى الله تعالى ) متاحة لكم جميعا مهما سبق منكم من أفاعيل. واعلموا ان مثل هذه التوبة فرض عليكم، فلماذا نتعامل معها وكأنها مستحبة ومندوبة ، من أداها فحسن ، ومن لم يؤدها فلا تثريب عليه ؟ ولماذا نتعامل معها وكأن الموت لا يأتي بغتة ولا يسأذن ولا يمهل أحدا ؟

ولماذا نتعامل مع التوبة - وهذا أخطر مما سبق- وكأنها لا تعني الجماعات والأحزاب والحركات والمجتمع والسلطة والدولة .

والأعجب في كل هذا أن تكون الحركة الإسلامية كحركة النهضة غافلة عن هذا الأمر مع الغافلين ، مع الأسف الشديد ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. إن مثل هذه الغفلة العامة لدى التونسيين - خاصة لدى المجتمع السياسي - عن هذه التوبة, تجعلها أمرا ضروريا لعلاج الواقع التونسي, ومدخلا لتغييره وتطويره والنهوض به, الأمر الذي يدعو  إلى اتخاذ التوبة شعارا للمرحلة . فهل في مقدورنا – وخاصة حركة النهضة - أن نفعلها ونرقى بأنفسنا إلى خيريتها كما بين الرسول صلى الله علية وسلم في قوله <<كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون>> ؟

ولقد كان الصحابة رضي الله عنهم ، والصالحون من بعدهم في هذه الأمة ، يحضون الناس على الاسراع بالتوبة ، لا بل على استحضار التوبة في كل حين ، قال سلمان رضي الله عنه : " اذا أسأتَ سيئة في سريرة فاحسن حسنة في سريرة ، واذا أسأتَ سيئة في علانية فاحسن حسنة في علانية لكي تكون هذه بهذه . " ... وقال ابن مسعود رضي الله عنه : " ان المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف ان يقع عليه ، وان الفاجر يرى ذنوبه كذباب طار على انفه ، فقال به هكذا وهكذا " .

فيا احبائناالاحرار واخواننا الاخيار اجيبوا داعي الله تعالى وتوبوا اليه وسارعوا ولا تتأخروا حتى لا يكون الموت اسرع إليكم منكم الى التوبة، وعندها الندم الذي لا يُجدي ، والحسرة المرة الابدية والخسران المبين ، يقول الله تعالى : (وسارعوا الى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين .)

هل من سبيل إلى الرشد والتًعقَل؟

يخوض قرابة اربعمائة من المساجين السياسيين المعتقلين بموجب قانون " مكافحة الإرهاب" اللادستوري، إضرابا مفتوحا عن الطعام منذ يوم 15 أوت، للمطالبة بمحاكمة عادلة، وايقاف المعاملة السيئة التي يتعرضون لها داخل السجون.

أن المضربين عن الطعام يطالبون بوضع حدّ لما أسموه "المظالم" وبـ"احترام حقهم في الدفاع عن أنفسهم في محاكمة عادلة" وبـ"معاملتهم كمساجين سياسيّين".  وإن إدارة سجن المرناقية منعت عائلات الموقوفين من زيارة أبنائها, بمقتضى أحكام "قانون الإرهاب" المخالف لمبادئ المحاكمة العادلة وللمعايير الدوليّة 

وإننا لا يسعنا الا المطالبة بإطلاق سراح "كلّ الموقوفين أو المحاكمين الذين لم يرتكبوا جرما ماديّا يعرّضهم للعقاب وتمكين كلّ متهم مهما كانت الأفعال المنسوبة إليه من حقه في محاكمة عادلة".

كما علّق السياسي السابق السيد لطفي الورغي بوزيان، الاضراب عن الطعام الذي بدأه يوم 3 أوت الجاري، للمطالبة بحقه في العمل والعلاج، وتمكينه من جواز سفره.

ومنذ بضعة أيام وقع ترحيل السيدة مريم الغانا – زوجة اللاجئ السياسي وائل الدريدي - ورضيعها أحمد الذي لم يتجاوز عمره التسعة أشهر، الى بلدها موريتانيا، وحرمانها من قضاء شهر رمضان مع عائلة زوجها، وختان ابنها أحمد في وسط عائلته.

هذه الأحداث وغيرها، تدفع للتتساؤل عن الحكمة من وراء هذه الإجراءات، التي طالت الشباب والنساء والرضع، وعائلات السجناء وأقاربهم. فبأي حق يحرم الالاف من الشباب التونسي من المحاكمات العادلة، والمعاملة وفق القانون دون تعذيب او تنكيل؟

وما هوالقصد من ملاحقة المساجين السياسيين السابقين لقرابة العشريتين ، وبعد قضاء السنوات الطوال في السجون، وحرمانهم من العمل والعلاج، او السفر خارج البلاد بحثا عن لقمة العيش؟

وأي شريعة إنسانية او سماوية او دولية و أي قانون فوق هذه الارض يبيح ترحيل رضيع تونسي من وطنه، وحرمان عائلته من فرحة لقائه خلال شهر رمضان وعيد الفطر، وختانه بحضورها؟ 

الإضراب عن الطعام للأخوين محمد عمار و عادل العوني : لم تكن السجون التي استضافت محمد عمار وعادل العوني ، والآلاف من إخوانهما، سنوات طويلة رفيقة بهما، ولا لطيفة معهما... ولم تكن تربيتهما تسمح لهما بالصمت أو الرضى بالدون والهوان.. لا تلك التربية التي تلقياها في المساجد وفي دوائر الحركة الاسلامية، ولا تلك التربية التي تلقياها في حي إقامتهما: الملاسين...

لم أتشرف بمعرفة محمد عمار وعادل العوني معرفة شخصية.. ولكن ما أعرفه عنهم حق المعرفة أنهم من الذين قسموا فترة سجنهم شطرين متقاربين: شطر إقامة 'عادية' وشطر إقامة في 'السيلونات'، اختيارا منه احتجاجا على مظلمة من المظالم، أو عقوبة مسلطة من الإدارة على ما تراه خرقا للتراتيب الإدارية، وما أكثر التراتيب والإجراءات والبدع الجائرة التي كانت تتفتق عنها عبقرية إدارات السجون... كان العادل 'ولد الملاسين'، ابن الحي الشعبي، الذى يعرف كيف يرد على المظلمة حين وقوعها...

وكان محمد عمار وعادل العوني من ثلة الشباب التي دفعت من أجسادها العارية ومن أعصابها، ومن صحتها، ما ردّت به خطة كانت تستهدف الجميع. كان من تلك الطليعة التي سيباركها الناس، والتاريخ.. وأسأل أن يباركها المولى سبحانه..

 كان محمد عمار وعادل العوني كل واحد منهما نسيجا وحده، ونمطا متفردا ضمن الآلاف التي طالتها محنة السجن من قيادات ومناضلي وأنصار حركة النهضة. كان شخصية عجيبة، لا يمكن أن تمر بمكان دون أن تلفت انتباه الجميع مساجين وأعوان.. كان طيبا حدّ السذاجة.. كان طفلا تسترضيه كلمة لطيفة، أو لمسة رفيقة. وكان ماردا جبارا عندما يحس بالإهانة..

وفي كل الأحوال كان رجلا، لا يتحمل أن يبقى عالة على أحد... كان من الذين استمروا في حمل 'اسم شهرة'.. مثل كثيرين من أبناء الأحياء الشعبية، كأحد رواسب مرحلة ما قبل الإقتراب من مناخات الاسلاميين وأجوائهم. كان يعشق الرياضة...

 وكان دائم الانشغال بما سيفعله بعد خروجه من السجن. فكّر في عشرات المشاريع، وسأل النزلاء عن مقومات نجاح كل منها، وفكر أن يكون صاحب قارب صيد يشتغل فيه صحبة ابنه...ومنهم من فكر أن يكون مربي نحل، أو أرانب.. أو بائع سمك، أو خضر، أو غير ذلك...

السياق العام الدافع لإضراب الإخوة عن الطعام : إن ما ما أصبح مميزا للساحة التونسية من أشكال نضالية اعتماد اسلوب اضراب الجوع في مسائل تهم أفرادا أو مجموعات صغيرة، أو تهم مسائل تتعلق بالوضع السياسي في البلاد عموما. للمراقبين أن يقرروا إن كان الأمر يتعلق بقدرتنا الخارقة على ابتكار الأشكال النضالية الطريفة، أم أن أشكالا نضالية سجنية تكتسح الساحة...

ولكن المؤكد أن اعتماد هذه الوسيلة –التونسية- يؤشر على حجم القهر الذى ينهش المتضررين، فيقايضون أجسادهم، أو لنقل حياتهم، مقابل الحصول على مطالب بسيطة، وإن عز الحصول على تلك المطالب، فلا أقل من التعبير عن رفض وضع لا يشرّف المتسبب فيه، ولا يعفي الضحية من البحث عن سبيل للحصول على حقوقها...

الإضراب الذى شرع فيه سجينان سياسيان سابقان يثير الحديث عن ملف يشمل الآلاف، ويمس جوانب حياتية أساسية، وقليلا ما يتم الإنتباه إليه، والإشارة له، والتحرك من أجله في شموله وتعدد أبعاده...

الساحة التونسية المستقلة والمعارضة تركز على الملف السياسي، باعتبار حقوق المواطنة هي أحد المداخل السياسية لكل إصلاح ونهضة.. ولكن هناك ملف آخر لا يقل أهمية، يتنامى الإنتباه إليه، والتفاعل معه، وإن بحجم لا يزال ضعيفا، وهو ما يتعلق بالحقوق الأساسية للإنسان، بما هو إنسان... لا أقصد به الملف الإجتماعي الذى يتكاثر ضحاياه يوما بعد يوم، باعتبار انتمائهم الفئوي، والذى يعبر عن نفسه بصيغ من التململ والإحتجاج مختلفة، وإنما أقصد ضحايا مظالم وسياسات تستهدفها باعتبار تجرّئها على التعبير عن أفكارها ومواقفها، واختلافها عن السائد، وبالتحديد عن الرسمي...

وفي غياب الإحصاءات الدقيقة فإنه لا يمكننا أن ندرك هول الكارثة التي تشوّه صورة البلاد، وتمس من سمعتها... ولكن لمحاولة تلمس حدود الصورة، وتخومها، يمكننا أن نتساءل:

كم من الإطارات أنفقت عليها المجموعة الوطنية بسخاء، فبادلتها سخاء بسخاء، فتميزت تحصيلا معرفيا، وكفاءة مهنية، ونزاهة إدارية، هُمِّشت بقصد، فحُرمت البلاد من علمها وكفاءتها، وإخلاصها وحماسها...

كم من الأساتذة والجامعيين والمهندسين والموظفين السامين ينفق الواحد منهم يومه أمام 'نصبة' لبيع الخضر، لعله يوفر ما يقارب الكفاف... بالتأكيد لا يتعلق الأمر بحالات قليلة، ولا بعشرات، ولا بمئات... إننا أمام ملف يشمل بالتأكيد الآلاف.

لا يتعلق الأمر بمسألة تربوية,, تخص التفضيل بين المهن، إذ الأصل أن الرزق كله طيب ما دام حلالا-وهؤلاء يتحرون الحلال في مكاسبهم- ولا يتعلق الأمر فقط بسياسة إذلال نفسي، إذ ما أصعب أن يجد المرء نفسه بعد أن جرب الإكرام والوجاهة في مهنة تناسب تحصيله وما أنفق فيه من جهد، ما أصعب أن يجد نفسه في شغل يوصف عند الناس بالوضاعة، ولا يوفر مع ذلك لا الإستقرار النفسي،  ولا الكفاية المادية...

لا يتعلق الأمر بهذا، ولا بذاك فقط... وإنما يتعلق أيضا بما يمكن أن نسميه إهدارا للموارد العامة. فحينما يحرم الرجل المناسب والكفؤ مما يناسبه ويتماشى مع كفاءته عقابا له عن قناعاته ومواقفه، فإننا نجد أنفسنا بالضبط أمام تبديد للثروات العمومية...

هذا ملف يشمل في نفس الوقت التهميش الاجتماعي، والإذلال النفسي، وإهدار الثروات العمومية، ومن أوجه الإذلال النفسي التابعة له أن يحرم الآلاف من إثبات صفاتهم العلمية في بطاقات هوياتهم، لتثبت بدل مما أنفقوا في سبيله أعمارا  وأموالا وعرقا، صفة أخرى ترمز لهذا التهميش الاجتماعي: عامل يومي، أو عاطل عن العمل...

وكم من التونسيين يجدون أنفسهم محرومين من التنقل داخل بلدهم، بين مدينة ومدينة، فيحرم المرء من متابعة علاج يأمره به الطبيب، ويحرم من مواكبة مناسبات عائلية بدعوى المراقبة الإدارية.

وكم من التونسيين يجدون أنفسهم مجبرين على الوقوف المذل أمام مراكز الأمن لتسجيل الحضور.. مرت بهذه الطريق عشرات الآلاف من التونسيين، ولا يزال المئات يعانون هذه العقوبة المذلة...

وكم من التونسيين يحرمون  وأهليهم من تلقي علاج مناسب، بعد أن أنهكت السجون منهم الأبدان والأرواح، يعانون موتا بطيئا أقسى على النفس مما عانوا في السجون، إذ كان لها هناك على الأقل عزاء التّعلل بفقدان الحرية، أما الآن فهي تحرم من العلاج في حالة توهم بالحرية...

وكم من التونسيين يحرمون وأهليهم وحتى أقاربهم من جوازات السفر و أنا منهم اذ اني محروم من خق التنقل منذ 19 ماي سنة 1990 و انا مقيم لفرنسا منذ 1978....

وكم من التونسيين هم محرومون من السفر رغم توفر الوثائق الضرورية...وكم منهم يحرمون من العودة الى أوطانهم بعد أن طحنتهم الغربة والحنين عقودا من الزمان... مات من مات من أحبابهم وما ألقوا عليه نظرة أخيرة، ولا شيعوا جنازته، ولا وقفوا مترحمين على قبره... وتزوج من تزوج، وولد من ولد، وحرموا من مشاركة أهليهم لهو الصيف وجد الشتاء... آلاف مؤلفة، بعضهم غادر البلاد في قوة الشباب وهو يطرق الآن أبواب الشيخوخة... وبعضهم غادرها جنينا وهو يداعب الآن أطفاله، وبعضهم لا يعرف تونس إلا من خلال رواية الآباء والأجداد.

أبناء حركة النهضة ومناصروها هم أكثر ضحايا هذا الملف الثقيل... غير أن هناك مئات الضحايا من غيرهم، إذ يحرم العديد من قدماء المساجين من اليسار والقوميين لحد اليوم من حقوقهم السياسية والمدنية، بعد محاكمات مضت عليها الآن أكثر من ثلاثة عقود...

ليجرأ من يشاء على وضع كشّاف لهذا الملف الرهيب، بالأسماء والتواريخ والأحداث، ولن يكون هذا الكشّف مريحا لأحد... لا للسلطة الحاكمة، ولا حتى للضحايا، إذ سيُسألون: أما وجدتم من سبيل لرفع المظالم عنكم؟

هذا الملف سياسي في سياقاته، بمعنى أن الأوضاع والمناخات التي ولّدته هي أوضاع ومناخات ودواع سياسية، ولكن يجب ألا يُسيّس، أي أنه لا يجب أن يكون موضوع مقايضة أو مساومة، لأنه يتعلق بحقوق أفراد، وإن تجاوزت أعدادهم الآلاف.

لا يجوز لأحد أن يفقد الثقة في قدرة التونسيين على التعامل بحكمة مع كل الملفات مهما بلغت درجة تعقّدها... ولذلك فالمأمول أن يفهم أي إضراب او أي تحرّك في سياقه الخاص، وفي سياق أعم منه باعتباره نوعا من الإشارة الحمراء لأوضاع تعقدت وتعفنت ولم يعد بمستطاع أحد من الضحايا تحملها، ولم يعد بإمكان سمعة البلاد أيضا أن تتحملها...

في ذكرى التأسيس : كتب الاخ فاضل البلدي بمناسبة ذكرى التأسيس للحركة الاسلامية معتبرا ان هذه الذكرى عزيزة أكثر من أي أحد ، والحركة الإسلامية مولود شارك فيه بقلبه وعقله ووقته وجهده ، حتى شب وكبر ، وحرص على أن يكون صالحا راشدا متطورا متوسعا في الاتجاه الصحيح مؤثرا في واقع البلد : إشاعة للقيم والأخلاق ووصلا للبلد بتاريخه وحضارته وإنقاذا له من التغريب والإلحاق الثقافي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي ، وإرساء لقيم الشورى والديمقراطية والحكم الرشيد.

وتحقيقا لتنمية تقوم على العدل والإنصاف وتقديس العمل وخدمة الناس. ولقد كانت السنوات الأوى التي امتدت من أواخر الستينات إلى أوائل الثمانينات سنوات التجريب والتدريب والتكوين والإعداد وشيء من التخطيط ، فيها حركة كثيرة ونشاط كبير وتوعية متطورة : "محاضرات ودروس وندوات وحلقات ذكر وأخرى للتكوين في المسجد والجامع والمعهد والكلية".

وتوسع النشاط بشكل سريع ، وكانت للإسلاميين مناطق احتكاك وصولات وجولات ، خاصة في المعاهد والجامعة ثم في النقابة حيث كان اليسار مهيمنا.

كما كان للإسلاميين تفاعل متنام مع الواقع الاجتماعي والسياسي يشهد على ذلك منشوراتهم من المعرفة إلى المجتمع إلى الحبيب ، ودور نشرهم "الراية – الهدى – الجديد".

ويمكن أن نذكر على سبيل المثال -دون توسع- الموقف من الوحدة التونسية الليبية في سنة 1974 و من أحداث 77-1978 والموقف من أحداث الحرم في السعودية والتفاعل القوي مع الثورة الإسلامية في إيران سنة 78-1979 وما تلاها.

وقد كان لذلك التوسع العددي السريع ، وذلك الحضور المطرد في الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية للبلاد. وذلك صراع القوي مع البعث والقوميين واليسار في المعاهد والجامعة. كان لذلك دور كبير في تطور الأفكار ووجهات النظر داخل الحركة الإسلامية.

كل هذا التوسع والحضور القوي دور في لفت الانتباه من لدن السلطة إلى الخطر الزاحف و الفاعل الجديد في الواقع التونسي لذلك بدأ التفكير في إيقاف هذا المد مبكرا.

فلم تكد تدخل عشرية الثمانينات حتى وقع إقرار قانون المساجد سعيا لحرمان الحركة الإسلامية من فضائها الحيوي وهو الجامع ، بحجة عدم توظيف المساجد للدعاية السياسية ، وتلا ذلك مصادرة نشرياتها الواحدة تلو الأخرى : "المعرفة" ثم "المجتمع" ثم "الحبيب".

وفي سنة 1981 وعندما أعلنت الحركة الإسلامية عن ميلاد "حركة الاتجاه الإسلامي" وطلبت تأشيرة في ذلك انسجاما مع قانون الأحزاب الجديد ما كان جواب السلطة إلا حملة الاعتقالات ثم المحاكمة السياسية لقيادة الحركة وكوادرها المركزية والجهوية.

وبعد ذلك الحركة الاسلامية مرحلة جديدة تقوم على التشابك والتدافع العنيف واستمرت هذه المرحلة عشرين سنة. وسأحاول أن أقف بشيء من التحليل عند حدث الإعلان باعتباره مرحلة مفصلية في تاريخ الحركة الإسلامية.

سؤال يطرح نفسه هل كان الإعلان عن "حركة الاتجاه الإسلامي" في 6 جوان 1981حدثا مسقطا أم كان تطورا طبيعيا واستجابة موضوعية للنمو والتطور الذي شهدته الحركة الإسلامية. فكيف تفاعل الإسلاميون مع هذا الحدث فهما وتنزيلا وكيف كان رد فعل السلطة وبقية الفرقاء السياسيين ؟

لا شك أن عشرية السبعينات كانت مهمة جدا في تاريخ العركة الاسلامية بتونس فقد شهدت حراكا قويا في الجامعة يتمثل في هيمنة اليساريين عموما واتباع حزب البعث الاشتراكي وكذلك القوميين الناصريين ونجحوا جميعهم  في إخراج الحزب الحاكم من الجامعة وصناعة نخبة يسارية متغولة في الثورية وتجرئ الطلبة على الدولة ومؤسستها الأمنية وشهدت تلك السنوات أوسع الإضرابات وأعنفها وكذلك حركة ثقافية نشيطة .

ثم ظهر الإسلاميون من خلال الندوات والمحاضرات الثقافية أولا ثم المشاركة في الحياة النقابية الطلابية والتجمعات والاجتماعات العامة لاحقا وبدؤوا شيئا فشيئا يأخذون مكانهم بشيء من الجهد لأنهم لقوا مقاومة وصدا عنيفا من اليسار وغيره ولعل ذلك الصراع الفكري والميداني هو الذي ساهم في تكوين نخبة متوسعة اطرادا من الفعاليات الإسلامية التي ستصبح مع الزمن في المواقع الأولى في الحركة الإسلامية الناشئة.

كما أن هؤلاء الطلبة هم الذين سيؤسسون ويطورون العمل داخل البلاد من خلال المعاهد. و احدثوا حراكا سياسيا مطردا في الحياة العامة للبلاد ساهم فيه بشكل واضح وضع الحزب الاشتراكي الدستوري  بعد إقالة أحمد بن صالح ومحاكمته وفراره.

ثم كان خروج الأستاذ أحمد المستيري وجماعته من الحزب الأوحد في سنة 1973 وقناعتهم بضرورة العمل على التعدد ، ولابد من الإشادة والتأكيد على الجهد الذي بذله أحمد المستيري وحسيب بن عمار والدالي الجازي وحمودة بن سلامة ومحمد مواعدة وإسماعيل بولحية وغيرهم في صناعة وضعية جديدة ستكون أرضية صالحة لتشكل حركات سياسية وأحزاب تبدأ غير شرعية ثم تفتك شرعيتها وتفسح المجال أو تجرئ غيرها على ذلك.

الحركة الاجتماعية المتطورة التي كان عليها الاتحاد العام التونسي للشغل بقيادة الحبيب عاشور وقد كان أهم فاعل فيها وقد كان لنقابة التعليم العالي ونقابة التعليم الثانوي أثر واضح في تطوير الاتحاد من حيث أطروحاته وأشكال نضاله .

وقد انتهى إلى الاستقلال عن الحزب الذي كان مهيمنا ثم إلى الدعوة إلى الإضراب العام في 26 جانفي من سنة 78 وما ترتب عليه من إنزال الجيش إلى الشارع وإطلاق الرصاص وسقوط الضحايا ثم تدجين الاتحاد العام التونسي للشغل وإعادته إلى حضيرة الحزب الحاكم وزج القيادات النقابية في السجون وعلى رأسهم الزعيم المرحوم الحبيب عاشور.

ولكن الحركة الاجتماعية لم تتوقف بل تطورت وإن بدا أن النظام هيمن عليها.

أما الحركة ثقافية والإعلامية فكان أهم فاعل فيها جريدة "الرأي" و "الشعب" و "المغرب Le Maghreb" و"المعرفة والمجتمع والحبيب" الناطقة باسم الإسلاميين ومسرح متطور وحركة نشر ومعارض كتاب وغير ذلك مما ساهم في صناعة وعي جديد يريد أن يقطع مع وضعية وعقلية الحزب الواحد ويؤسس لتعددية سياسية وحراك حقوق وحرياتي يتوافق مع التطور الذي شهدته البلاد.

يضاف إلى هذه العوامل الداخلية عوامل أخرى خارجية يضاف إليها التوسع السريع للحركة الإسلامية وما ترتب عليه من يقظة السلطة وانتباهها لخطر هذا الفاعل الجديد الذي ظنّ أنه غير منظم ولا مهيكل فإذا به كذلك ثم انتباه قيادات الحزب القديمة وعلى رأسها بورقيبة إلى طبيعة الفاعل الجديد أي الحركة الإسلامية ومناقضتها للمشروع الحداثي الذي بشر به وعمل على تنشئة الجيل الجديد عليه من خلال التعليم أساسا والثقافة والإعلام معاضدة.

كل هذا جعل المواجهة واردة بين الدولة والحركة الإسلامية الناشئة – ثم إذا أضفنا إلى ذلك الحركة اليسارية والبعثية والقومية التي اختارت منذ أواخر الستينات سلوكا جديدا يقوم على المزاوجة بين المعارضة الراديكالية من خلال النقابات والتعليم والجامعة والاندساس داخل أجهزة الدولة ومؤسساتها وتوظيفها لتنفيذ برامجها من ناحية واستخدامها من ناحية أخرى لإعاقة الخصم الاديولوجي الجديد الذي بدأ ينافسها في الجامعة والثانويات والنقابة أي فضاءاتها الحيوية التقليدية التي هيمنت عليها لسنوات طويلة بدون شريك ولا منافس.

أمام هذه التطورات واستجابة لمقتضيات النمو الطبيعية وتوقيا من الهجمة المحتملة سارعت الحركة إلى الاستجابة لدعوة النظام الجديدة والعلنية في امكانية قيام تنظيمات سياسية مستقلة عن الحزب أي الانتقال إلى وضعية التعددية السياسية وقد يكون التنبيه مفيدا إلى أن الوزير الأول الأسبق محمد مزالي كان مقتنعا بضرورة ذلك واستعمل نفوذه وحضوته لدى بورقيبة لنقل البلاد إلى هذا الوضع الجديد القائم على التعددية وقد يكون مقتنعا بضرورة إيجاد توازن في المجتمع بين يمين ويسار كما أن الأحداث والتطورات المتسارعة التي شهدتها البلاد في أواخر السبعينات كانت تقضي بضرورة ذلك عند السياسي النابه.

إذا بادرت الحركة إلى ملاءمة الوضع الجديد وعقدت ندوة صحفية أعلنت فيها عن قيام "حركة الاتجاه الإسلامي" وطلبت تأشيرة في ذلك. ولكن هذه الحركة (بتصرف) لم تستوعب بنفس القدر والحماس لدى فعاليات الحركة وكوادرها ولم تأخذ حظها من النظر رغم أنها خيار منبثق عن مؤتمر ويمكن أن نقول إن عددا كبيرا من الكوادر خاصة الطلابية والتنظيمية منها لم تقبل بهذا التمشي ولم تستوعبه الاستيعاب المطلوب وبقيت متعلقة ومشدودة إلى الإرث التنظيمي ومنطق السرية الذي كان مهيمنا.

وهو ما جعل الحوار يستمر بعد ذلك حول السرية والعلنية وجدوى الإعلان ثم جاءت الاعتقالات والمحاكمات فدعمت حجة المعترضين رغم أن تلك الاعتقالات كانت شبه حتمية لأن النظام كان يتحفز لذلك بغرض تأديب هذا الفاعل الجديد أي الحركة الإسلامية الذي كان يمثل اعتراضا وتحديا لبورقيبة وخياراته الحداثية ودخل فعلا في حركات احتجاجية قوية لعل أشدها وأكثرها دلالة الحركة الاحتجاجية التلمذية والطلابية التي كان احتجاز عميد كلية العلوم في ذلك الوقت أكبر تعبير عليها.

ولنا أن نتساءل هل يمكن لسلطة ونظام قائم على الفردية والزعامة والامتلاء بالمشروع الحداثي أن يقبل بتحدي فاعل جديد نجح في سنوات قليلة في زعزعة مقومات الدولة الحديثة.

كما لنا أن نتساءل أيضا عن درجة النضج التي كانت تطبع تصرفات قيادات حركة الاتجاه الإسلامي وفعالياتها في ذلك الوقت المبكر وهل كانت مدركة لطبيعة التوازنات وقادرة على ضبط النفس وواعية بطبيعة بورقيبة ونظامه ومقدرة لتداعيات سلوكياتها على الواقع السياسي والثقافي والاجتماعي في ذلك الوقت المبكر.

ويحسن – من باب الاعتبار –  فهم عملية الاشتباك الأول (اشتباك 81) وكسب الحركة الإسلامية فيها (مسؤوليتها) لنكون قادرين على متابعة "المسلسل" بدون انفعال أو على الأقل بقدر معقول من الانفعال الواعي.

لقد حاولت أن أبين أن الحركة الإسلامية أو "حركة الاتجاه الإسلامي" الوليد الجديد لم تدرك بشكل جيد صعوبة هذه الخطوة بالنسبة لبورقيبة ونظامه وإن كانت من الناحية الموضوعة سلوكا راشدا ومتلائما مع اللحظة التاريخية في ذلك الوقت واستجابة واعية لدعوة النظام الجديدة في قبوله بالتعدد.

لكن سلوكها السابق لخطوة الإعلان وتحديها للنظام في المسجد والجامع والمعهد والجامعة وظهورها بمظهر الحركة المنظمة والقادرة على تحريك الشارع أو استغلاله وقيامها على معارضة الخيارات البورقيبية الحداثية.

كل هذا استفز السلطة واستعداها فلم يتردد بورقيبة في اتخاذ القرار والأمر بالقيام بالحملة مستهدفا بالأساس القيادة في مستواها الجهوي والمركزي تأديبا لها على التحدي وإيقافا لتوسعها وإن كانت هذه العملية جاءت في بداية عهد الوزير الأسبق محمد المزالي الذي جاء مبشرا بالتعددية وراغبا في إزالة أسباب التوتر السياسي والاجتماعي وهو ما جعله يجتهد في حل المشكلة بعد ذلك فلم تكد تنتهي المحاكمة حتى بدأت الاتصالات والوساطات لإنهاك التشابك وهو ما يفرض الاعتبار. ثم الإقرار بأن الإسلاميين لم يحسنوا التعامل مع الواقع والاستفادة من الفرص المتاحة وترك الانفعال والتأثر بالأم

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article